عشية حلول الذكرى الخامسة لرحيل القائد الرمز الشهيد ياسر عرفات، تكتب المقالات، والتحليلات ،والقراءات العميقة التي ترصد سيرة الراحل الكبير ومسيرته،التي ملات الدنيا وشغلت الناس باعتباره اخر عمالقة القرن العشرين.
يسلط الصحفيون والباحثون في مثل هذا اليوم من كل عام ، على جوانب ،ومحطات في حياة الزعيم، الذي حمل قضية شعبه الى قلوب الملايين من مؤيدي الحق والعدالة والحرية في العالم .
اليوم وجدنا اثرا من اثار الزعيم ...انه قلمه الذي اهدي قبل اشهر لصاحب هذه المقالة الكاتب أكرم عطا الله من قطاع غزة وهي مقالة طافحة بالحب والوفاء الذي يليق بحضرة الغياب لصاحب القلم الذي عاش ومات زاهدا ومتقشفا.
وتكريما لذكرى الراحل الكبير فاننا ننشر هذه المقالة بالمكان الذي يليق بصاحب القلم والحبر الذي سال منه ليجبر عثرات الكرام من اسر الشهداء والاسرى والارامل والايتام .
يقول الكاتب "للحزن طعم أخر حين يهبط ملاكه مرة واحدة ثقيلا على شعب يحمل على أكتافه كل خطايا التاريخ وحين تداهمه الذكرى التي تلسع القلب بمرارتها في ذروة انشغاله بالهموم التي لا يبدو في الأفق مؤشرات نهايتها فيتراكم الوجع على ضفاف القلب ثقيلا كما هي الحياة لنشحذ من الذاكرة بعض الأمل الذي كان يوما خبزنا وملحنا حين كان الراحل بيننا يقفز كفراشة قبل أن يسدل الستار على حضوره الطاغي حتى بعد الرحيل .
سألني صديقي الذي أهداني قلم الراحل قبل أشهر وسط طقس احتفالي لم يخل من الحزن المخيم على غزة وأسطحها وتشي به شوارعها ماذا ستفعل بهذا القلم ؟ قلت سأكتب في ذكرى الرحيل القادمة مقالا بهذا القلم بقلم ياسر عرفات وسيكون هو العنوان وبقيت أفتش عن بصماته على القلم الذي أمسكه يوما ما وبقى فيه شئ من يديه وأنفاسه وتاريخه الطويل الممتد على مساحة العواصم التي خذلته وهو يحمل فانوس ديوجينيس باحثا عن النور في عالم يحيطه الظلام من جهاته الأربع حين كان الرحيل عنوانه الدائم والاستقرار عنوانه المؤقت الطويل على هذه الأرض .
كتب هذا القلم طويلا ليغطي انكشاف اليتامى والأرامل والشهداء والحزانى الذين كان صاحبه ملجأهم الأخير حين كان عزيزا ومسئولين اصطفوا طوابير بانتظار ما سيسيل من حبره ،وكتب جزء من تاريخ الشعب المعلق على الصليب وكان على صاحبه أن يصحح بهذا القلم تاريخ لم يضع فيه سطرا واحدا وأصبح المتهم بكتابته ، وكان عليه أن يحمل صخرة أطلس على ظهره إلى يوم الدين .
كان ذلك النهار منذ خمس سنوات من جدار الأيام التي تتساقط علينا بلا انقطاع ليعلن إيغال الرمز في رمزيته وإمعان الأسطورة في أسطرتها ملقيا في وجوهنا بلغز الرحيل الأكثر تعقيدا من سؤال البقاء الذي كان يحتاج إلى عرافة يونانية تقرأ فنجان ملامحه المبعثرة دوما ونظراته التي كانت تكفي لاهتزاز الأرض قبل أن تنطفئ في حدقتيه .
كانت القدس صليبه وقرآنه ورمحه وبوصلته التي لم تخطئ عن الاتجاه نحوها:
كان يحاور قدرة باستمرار ويتأمل تاريخ استفعله الآخرون ليسرقوا عنبه وخيمته ووطنه وكان عليه أن يغافل التاريخ مرة أخرى بعد أن أدمن السهر حد العصيان ، كان يرشد جهات الأفق إلى بوصلها ، كانت القدس صليبه وقرآنه ورمحه وبوصلته التي لم تخطئ عن الاتجاه نحوها ، كان ينسب نفسه لها مسافرا مع أحلامه إليها محاولا أسطرة الواقع ووقعنة الأسطورة كان يعيش الترميز اليومي الذي لم يفارق وعيه ، كان يصافح الخليفة عمر، ويمشي متشابك الأيدي مع صلاح الدين كان ويهاتف طارق بن زياد ويخطط كل معاركه مع ظاهر العمر وعز الدين القسام ، كان يغني أغاني الرعاة حين تعلم منهم كيف يصعد الجبال ويهبط الوديان ، كان يقاتل بما يملك من عناد وسخرية وبما يملك من براءة وجنون حين تسلح بالزنبق وشقائق النعمان وبالحصى وأثبت صدق نبوءته حين أرغمت تلك الحصى دولة الجنون لأن تجثو عن ركبتيها .
احمل صليبك واتبعني
وبضعف ممكناته لم يسمح للصولجان أن يسقط من يد القسام فنهض من تحت ركام الهزائم التي أصبحت جزء من تاريخ أمته مستعيدا صرخة ذلك الشهيد القديم "احمل صليبك واتبعني" مستبدلا الدعاء بالسيف حين اختلف مبكرا مع رفقاء الأمس ليتصدى ببراءته لايدولوجيا الجنون ومثيولوجيا القتل التي استدعت كل أسفار نحميا وعزرا وعبرة إزاحة شاؤول عن العرش لتغرز أنيابها في لحمنا وتطردنا من جغرافيا أرضنا وتزيف تاريخنا ليعود راحلنا على نفس السفينة الذي حملت أجداده من أثينا القديمة ليغرسوا زيتونهم وعنبهم وثومهم وبصلهم ليزرعوا تاريخا عميقا في هذه الأرض التي يشهد عليها عمر أشجار الزيتون التي اصطفت خزينة يوم الوداع .
فللأشجار طقوسها في استقبال الحداد فالزيتونة المغروسة عميقا تحكي سيرة من مروا من هناك ومن مهروها بأقدامهم فهي تحفظ كل تاريخنا وتاريخ الأولون .. وتشهد علينا حين كنا هنا ، هناك نسقي بعرقنا تشققات الأرض حين كانت تبخل السماء ، وتحفظ ملامح ياسر عرفات كما تحفظ عدد أوراقها وتعرف صوته كما تعرف مسارات جذورها.
للراحلين في قلوبنا ما يكفي لأن تندلق عواطفنا وتحرك في النفس الحنين
قال صديقي لا تسقط في مديح ياسر عرفات قلت بل سأفعل فللراحلين في قلوبنا ما يكفي لأن تندلق عواطفنا وتحرك في النفس الحنين وللشهداء مكانتها التي حفروها على جدران القلب وأصبحت جزء من مجرى دمنا المتوقف عن الانسكاب مؤقتا ، فلم يعد الذي نكتب عنه يوزع العطايا والجزايا وأمراء الأمصار سنكتب عنه وسط هذا الزحام من الكتابة والكآبة وانسداد الأفق لنرمم الذاكرة التي شوهها من تاهت بوصلته يعده وسنكتب وفاء لذاتنا ولوطنية حركها فينا بقوة قبل أن يحاول إطفاؤها آخرون قربانا لجوعهم للسلطة ، سنحرص على استمرار صيانة الذاكرة باستدعاء كل الآباء دوما عرفات ، ياسين ، حبش ، الشقاقي ولن نترك لصدأ الواقع أن يغطي وهجا انبعث منهم يوما قبل أن يقولوا مروا على أجسادنا لتمر أرواحهم دوما علينا وتحاسبنا العيون عما فعلنا بأنفسنا لحظة غادرنا ياسر عرفات فبدأنا بعده رحلة التيه الطويل وحروب الأخوة الألداء وداحس والغبراء وحفلات التشظي والانشطار والانهيار .
قبل خمس سنوات هناك في مدن الصقيع في مدينة النور والعطور رحل ابن النار والأحجار والملح لا نعرف ما هي أخر كلماته ووصاياه ولكنها بالتأكيد منافية لما نفعل بأنفسنا من ذبح لمشروعنا بأيدينا ، كان ابن الوحدة وابن العودة ، وابن النضال ، لم يتوقف عن الهذيان بها حين ضربت قبائل قريش ومعها الأسباط اللاويون حصارها على غرفته الصغيرة التي حملت رمزية الوطن المحرر.
في غيابه غابت كل الوجوه وحضرت صورته وحدها قوية بعيونه الشاخصة دوما نحو أمل علقه بين أيدي طفل سيرفع العلم على المساجد والكنائس والجدران العتيقة في مدينة الصلاة ، حضر عميقا في غيابه باغتنا هذا الغياب الطاغي بقوة لم تحيطها أبهة لم يكن يمارس طقوسها ، انفلتت الجنازة دون تنظيم مثله تماما ، لو سألناه لم يكن يبحث عن جنازة رسمية بأبهة كجنازة القاهرة التي ظن الجميع أنه سيخرج حينها شاهرا احتجاجه على المشيعين لم يكن يريد ورود تلقى على تابوت خشبي وجنازة تسير برهبة الصمت ، كان يريد هتافات وصراخ وفوضى هو عاشقها الأول وصانعها الأول.
كم طعنة تلقى هذا الجسد الصغير وتلك الروح الكبيرة قبل السم من الأخوة والأشقاء والأعداء أدمت ذلك القلب الذي توقف هناك فقد أدرك عجز الأمة لا نظامها فقط حين قدمها للاختبار على جلود إنباءه قبل ربع قرن ولم تحرك مظاهرة واحدة وخلت عواصمها إلا من العشاق وخيانات الأزواج وعرف بعدها أن عليه أن يصد التاريخ بصدره المفتوح للرصاص القادم من كل الاتجاهات قبل أن يموت صريعا بأحدث وسائل القتل غير المعلن فقتل أمام أعينا ونحن نتفرج ومشغولون بترف الحوار والسؤال عن الذات التي انتفخت بعده لتصبح أكبر من الوطن.
كان عليه أن يصحح خطأ فرعون ، ويحاسب فرديناند ، ويحاكم هتلر ، ويعيد تصويب العقل اليهودي المختل، أن يصحح كل أخطاء التاريخ الطويل في عمره القصير مجردا من ضمير عالمي ، قبل أن يصفعه الحياد العربي الجارح فاثر الرحيل وسط معاركه التي كان عليه أن يكسبها جميعا فانسحب بهدوء بعد أن ملأ الدنيا ضجيجا لينتقل من واقع الذاكرة إلى شريطها الطويل ، كأنه حلم عابر داعب مخيلاتنا بأحلام مرة وبأوهام مرات حين كان يخاطب صخور بحر غزة ويرقص مع طحلب مائها ويبحر مع مراكب الصيد .
كان الختيار لكنه كان ابننا جميعا الابن الذي لم نهدهده ولم نحن عليه وقسونا لحظة اعتقدنا أنه القي بسيفه فوضعنا أمام حساب الضمير لحظة الوداع ولحظة أن اصطفت أرصفة الشوارع تلقي النظرة الأخيرة في ذلك اليوم الثقيل من أيام الخريف ، فللخريف طعم أخر حين يعلن نبأ رحيله بعد رحلة التيه الطويلة المهمورة بالتجاعيد على وجهه التي تحكى سيرة حياة كما الأبطال في الأساطير سترويها الجدات لأحفادهن وسيسمع أطفالنا قبل النوم قصة طويلة أخرها هنا كان ياسر عرفات.
يسلط الصحفيون والباحثون في مثل هذا اليوم من كل عام ، على جوانب ،ومحطات في حياة الزعيم، الذي حمل قضية شعبه الى قلوب الملايين من مؤيدي الحق والعدالة والحرية في العالم .
اليوم وجدنا اثرا من اثار الزعيم ...انه قلمه الذي اهدي قبل اشهر لصاحب هذه المقالة الكاتب أكرم عطا الله من قطاع غزة وهي مقالة طافحة بالحب والوفاء الذي يليق بحضرة الغياب لصاحب القلم الذي عاش ومات زاهدا ومتقشفا.
وتكريما لذكرى الراحل الكبير فاننا ننشر هذه المقالة بالمكان الذي يليق بصاحب القلم والحبر الذي سال منه ليجبر عثرات الكرام من اسر الشهداء والاسرى والارامل والايتام .
يقول الكاتب "للحزن طعم أخر حين يهبط ملاكه مرة واحدة ثقيلا على شعب يحمل على أكتافه كل خطايا التاريخ وحين تداهمه الذكرى التي تلسع القلب بمرارتها في ذروة انشغاله بالهموم التي لا يبدو في الأفق مؤشرات نهايتها فيتراكم الوجع على ضفاف القلب ثقيلا كما هي الحياة لنشحذ من الذاكرة بعض الأمل الذي كان يوما خبزنا وملحنا حين كان الراحل بيننا يقفز كفراشة قبل أن يسدل الستار على حضوره الطاغي حتى بعد الرحيل .
سألني صديقي الذي أهداني قلم الراحل قبل أشهر وسط طقس احتفالي لم يخل من الحزن المخيم على غزة وأسطحها وتشي به شوارعها ماذا ستفعل بهذا القلم ؟ قلت سأكتب في ذكرى الرحيل القادمة مقالا بهذا القلم بقلم ياسر عرفات وسيكون هو العنوان وبقيت أفتش عن بصماته على القلم الذي أمسكه يوما ما وبقى فيه شئ من يديه وأنفاسه وتاريخه الطويل الممتد على مساحة العواصم التي خذلته وهو يحمل فانوس ديوجينيس باحثا عن النور في عالم يحيطه الظلام من جهاته الأربع حين كان الرحيل عنوانه الدائم والاستقرار عنوانه المؤقت الطويل على هذه الأرض .
كتب هذا القلم طويلا ليغطي انكشاف اليتامى والأرامل والشهداء والحزانى الذين كان صاحبه ملجأهم الأخير حين كان عزيزا ومسئولين اصطفوا طوابير بانتظار ما سيسيل من حبره ،وكتب جزء من تاريخ الشعب المعلق على الصليب وكان على صاحبه أن يصحح بهذا القلم تاريخ لم يضع فيه سطرا واحدا وأصبح المتهم بكتابته ، وكان عليه أن يحمل صخرة أطلس على ظهره إلى يوم الدين .
كان ذلك النهار منذ خمس سنوات من جدار الأيام التي تتساقط علينا بلا انقطاع ليعلن إيغال الرمز في رمزيته وإمعان الأسطورة في أسطرتها ملقيا في وجوهنا بلغز الرحيل الأكثر تعقيدا من سؤال البقاء الذي كان يحتاج إلى عرافة يونانية تقرأ فنجان ملامحه المبعثرة دوما ونظراته التي كانت تكفي لاهتزاز الأرض قبل أن تنطفئ في حدقتيه .
كانت القدس صليبه وقرآنه ورمحه وبوصلته التي لم تخطئ عن الاتجاه نحوها:
كان يحاور قدرة باستمرار ويتأمل تاريخ استفعله الآخرون ليسرقوا عنبه وخيمته ووطنه وكان عليه أن يغافل التاريخ مرة أخرى بعد أن أدمن السهر حد العصيان ، كان يرشد جهات الأفق إلى بوصلها ، كانت القدس صليبه وقرآنه ورمحه وبوصلته التي لم تخطئ عن الاتجاه نحوها ، كان ينسب نفسه لها مسافرا مع أحلامه إليها محاولا أسطرة الواقع ووقعنة الأسطورة كان يعيش الترميز اليومي الذي لم يفارق وعيه ، كان يصافح الخليفة عمر، ويمشي متشابك الأيدي مع صلاح الدين كان ويهاتف طارق بن زياد ويخطط كل معاركه مع ظاهر العمر وعز الدين القسام ، كان يغني أغاني الرعاة حين تعلم منهم كيف يصعد الجبال ويهبط الوديان ، كان يقاتل بما يملك من عناد وسخرية وبما يملك من براءة وجنون حين تسلح بالزنبق وشقائق النعمان وبالحصى وأثبت صدق نبوءته حين أرغمت تلك الحصى دولة الجنون لأن تجثو عن ركبتيها .
احمل صليبك واتبعني
وبضعف ممكناته لم يسمح للصولجان أن يسقط من يد القسام فنهض من تحت ركام الهزائم التي أصبحت جزء من تاريخ أمته مستعيدا صرخة ذلك الشهيد القديم "احمل صليبك واتبعني" مستبدلا الدعاء بالسيف حين اختلف مبكرا مع رفقاء الأمس ليتصدى ببراءته لايدولوجيا الجنون ومثيولوجيا القتل التي استدعت كل أسفار نحميا وعزرا وعبرة إزاحة شاؤول عن العرش لتغرز أنيابها في لحمنا وتطردنا من جغرافيا أرضنا وتزيف تاريخنا ليعود راحلنا على نفس السفينة الذي حملت أجداده من أثينا القديمة ليغرسوا زيتونهم وعنبهم وثومهم وبصلهم ليزرعوا تاريخا عميقا في هذه الأرض التي يشهد عليها عمر أشجار الزيتون التي اصطفت خزينة يوم الوداع .
فللأشجار طقوسها في استقبال الحداد فالزيتونة المغروسة عميقا تحكي سيرة من مروا من هناك ومن مهروها بأقدامهم فهي تحفظ كل تاريخنا وتاريخ الأولون .. وتشهد علينا حين كنا هنا ، هناك نسقي بعرقنا تشققات الأرض حين كانت تبخل السماء ، وتحفظ ملامح ياسر عرفات كما تحفظ عدد أوراقها وتعرف صوته كما تعرف مسارات جذورها.
للراحلين في قلوبنا ما يكفي لأن تندلق عواطفنا وتحرك في النفس الحنين
قال صديقي لا تسقط في مديح ياسر عرفات قلت بل سأفعل فللراحلين في قلوبنا ما يكفي لأن تندلق عواطفنا وتحرك في النفس الحنين وللشهداء مكانتها التي حفروها على جدران القلب وأصبحت جزء من مجرى دمنا المتوقف عن الانسكاب مؤقتا ، فلم يعد الذي نكتب عنه يوزع العطايا والجزايا وأمراء الأمصار سنكتب عنه وسط هذا الزحام من الكتابة والكآبة وانسداد الأفق لنرمم الذاكرة التي شوهها من تاهت بوصلته يعده وسنكتب وفاء لذاتنا ولوطنية حركها فينا بقوة قبل أن يحاول إطفاؤها آخرون قربانا لجوعهم للسلطة ، سنحرص على استمرار صيانة الذاكرة باستدعاء كل الآباء دوما عرفات ، ياسين ، حبش ، الشقاقي ولن نترك لصدأ الواقع أن يغطي وهجا انبعث منهم يوما قبل أن يقولوا مروا على أجسادنا لتمر أرواحهم دوما علينا وتحاسبنا العيون عما فعلنا بأنفسنا لحظة غادرنا ياسر عرفات فبدأنا بعده رحلة التيه الطويل وحروب الأخوة الألداء وداحس والغبراء وحفلات التشظي والانشطار والانهيار .
قبل خمس سنوات هناك في مدن الصقيع في مدينة النور والعطور رحل ابن النار والأحجار والملح لا نعرف ما هي أخر كلماته ووصاياه ولكنها بالتأكيد منافية لما نفعل بأنفسنا من ذبح لمشروعنا بأيدينا ، كان ابن الوحدة وابن العودة ، وابن النضال ، لم يتوقف عن الهذيان بها حين ضربت قبائل قريش ومعها الأسباط اللاويون حصارها على غرفته الصغيرة التي حملت رمزية الوطن المحرر.
في غيابه غابت كل الوجوه وحضرت صورته وحدها قوية بعيونه الشاخصة دوما نحو أمل علقه بين أيدي طفل سيرفع العلم على المساجد والكنائس والجدران العتيقة في مدينة الصلاة ، حضر عميقا في غيابه باغتنا هذا الغياب الطاغي بقوة لم تحيطها أبهة لم يكن يمارس طقوسها ، انفلتت الجنازة دون تنظيم مثله تماما ، لو سألناه لم يكن يبحث عن جنازة رسمية بأبهة كجنازة القاهرة التي ظن الجميع أنه سيخرج حينها شاهرا احتجاجه على المشيعين لم يكن يريد ورود تلقى على تابوت خشبي وجنازة تسير برهبة الصمت ، كان يريد هتافات وصراخ وفوضى هو عاشقها الأول وصانعها الأول.
كم طعنة تلقى هذا الجسد الصغير وتلك الروح الكبيرة قبل السم من الأخوة والأشقاء والأعداء أدمت ذلك القلب الذي توقف هناك فقد أدرك عجز الأمة لا نظامها فقط حين قدمها للاختبار على جلود إنباءه قبل ربع قرن ولم تحرك مظاهرة واحدة وخلت عواصمها إلا من العشاق وخيانات الأزواج وعرف بعدها أن عليه أن يصد التاريخ بصدره المفتوح للرصاص القادم من كل الاتجاهات قبل أن يموت صريعا بأحدث وسائل القتل غير المعلن فقتل أمام أعينا ونحن نتفرج ومشغولون بترف الحوار والسؤال عن الذات التي انتفخت بعده لتصبح أكبر من الوطن.
كان عليه أن يصحح خطأ فرعون ، ويحاسب فرديناند ، ويحاكم هتلر ، ويعيد تصويب العقل اليهودي المختل، أن يصحح كل أخطاء التاريخ الطويل في عمره القصير مجردا من ضمير عالمي ، قبل أن يصفعه الحياد العربي الجارح فاثر الرحيل وسط معاركه التي كان عليه أن يكسبها جميعا فانسحب بهدوء بعد أن ملأ الدنيا ضجيجا لينتقل من واقع الذاكرة إلى شريطها الطويل ، كأنه حلم عابر داعب مخيلاتنا بأحلام مرة وبأوهام مرات حين كان يخاطب صخور بحر غزة ويرقص مع طحلب مائها ويبحر مع مراكب الصيد .
كان الختيار لكنه كان ابننا جميعا الابن الذي لم نهدهده ولم نحن عليه وقسونا لحظة اعتقدنا أنه القي بسيفه فوضعنا أمام حساب الضمير لحظة الوداع ولحظة أن اصطفت أرصفة الشوارع تلقي النظرة الأخيرة في ذلك اليوم الثقيل من أيام الخريف ، فللخريف طعم أخر حين يعلن نبأ رحيله بعد رحلة التيه الطويلة المهمورة بالتجاعيد على وجهه التي تحكى سيرة حياة كما الأبطال في الأساطير سترويها الجدات لأحفادهن وسيسمع أطفالنا قبل النوم قصة طويلة أخرها هنا كان ياسر عرفات.